سورة التغابن - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التغابن)


        


{يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)} [التّغابن: 64/ 1- 7].
ينزه اللّه تعالى عن كل نقص وعيب، ويمجّده جميع المخلوقات في السماوات والأرض، لأنه المالك المطلق وحده، والمحمود المشكور وحده، المستحق للحمد والشكر، من جميع مخلوقاته، على جميع ما يخلقه ويقدّره، وهو القادر على كل شيء، أي موجود، وفيه عموم التنبيه، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
ومن آثار قدرته: أنه تعالى هو الذي أوجدكم على هذه الصفة، وصار أمر كل واحد ما اختاره، فمنكم الكافر باختياره وكسبه على نقيض فطرته، ومنكم المؤمن باختياره على حسب فطرته السوية القائمة على التوحيد، واللّه العالم البصير قبل الخلق بما يؤول إليه أمر كل واحد منكم، الشهيد على أعمال عباده.
- ومن مظاهر قدرته: أنه أوجد السماوات والأرض بالعدل والحكمة البالغة المحققة لنفع العالم في الدين والدنيا، فلم يكن خلقها عبثا ولا لغير معنى. وأبدع خلقكم أو تصويركم، أي التشكيل والتخطيط في أحسن وجه وأجمل عضو، وإليه في الآخرة مرجعكم ومآلكم، فيجازي كل إنسان بما كسب.
- ومن آثار قدرته: أنه تعالى يعلم جميع ما في السماوات والأرض، فلا تخفى عليه خافية من ذلك، ويعلم ما تخفونه وما تظهرونه، واللّه محيط علمه بما يضمره كل إنسان في نفسه من الأسرار والعقائد. وقوله: {وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ} عطف خاص على عام، فإنه تعالى علم أعظم المخلوقات، ثم تدرج القول إلى أخفى من ذلك، وهو جميع ما يقوله الناس في السّرّ والعلن، ثم تدرج إلى شيء خفي: وهو ما يهجس بالخواطر. و{بِذاتِ الصُّدُورِ}: ما فيه من خطرات واعتقادات، والصّدر هنا: هو القلب.
ألم يبلغكم معشر مشركي مكة خبر الكفار من الأمم الماضية، كقوم نوح وعاد وثمود، وما حلّ بهم من العذاب والنّكال، بسبب مخالفة الرّسل والتكذيب بالحق، فقد دعتهم الرّسل إلى توحيد اللّه وعبادته، وترك عبادة الأوثان، فعاندوا وأعرضوا، فأصابهم عاقبة كفرهم وتكذيبهم، ورديء أفعالهم، بعقاب الدنيا، والعذاب المؤلم في الآخرة، وهو عذاب النار.
وذلك العذاب في الدارين بسبب أنه كانت تجيئهم رسلهم بالمعجزات الظاهرة والأدلة الواضحة، فقالوا: كيف يتصور أن يهدينا البشر؟ فكفروا بالرسل وبرسالاتهم، وأعرضوا عنهم وعن الحق والعمل به، ولم يتدبروا فيما جاؤوا به، واستغنى اللّه عن إيمانهم وعبادتهم الباطلين، حين أهلكهم، وعما ظهر من هلاكهم، وأنهم لن يضرّوا اللّه شيئا، فبان أنه كان غنيّا أولا، واللّه غير محتاج إلى العالم ولا إلى عبادتهم له، محمود من كل مخلوقاته، بلسان المقال أو الحال.
وكلمة {أَبَشَرٌ} اسم جنس، فوصف بالجمع، على أنه مبتدأ، ويهدوننا خبر. ثم أخبر اللّه عن عقيدة الكفار بإنكار البعث، فقد زعم الذين كفروا، يعني قريشا، ثم يعمّ كل كافر بالبعث، أنه لا بعث ولا حساب ولا جزاء، فردّ اللّه عليهم وأخبرهم بأنكم واللّه ستبعثون وتخرجون من قبوركم أحياء، ثم تخبرون بجميع أعمالكم جليلها وصغيرها، إقامة للحجة عليكم، ثم تجزون به، وذلك البعث والجزاء هيّن سهل على اللّه تعالى. وفيه تأكيد البعث على جهة الإخبار والتوبيخ.
وليس في القرآن قسم يقسم به اللّه بنفسه إلا في ثلاثة مواضع: هذا الموضع: {قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} وقوله في آية أخرى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)} [يونس: 10/ 53]، وقوله في موضع ثالث: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 34/ 3]. والمواضع الثلاثة لإثبات البعث بالقسم الإلهي العظيم.
فليس لمؤمن أو عاقل أن ينكر الآخرة وما فيها من حساب، وعقاب وثواب، لإقامة صرح العدالة بين الناس.
الدّعوة إلى الإيمان بالله ورسوله والتحذير من مفاجات القيامة:
بعد أن أقسم اللّه تعالى على إثبات وجود البعث، أمر بالإيمان الخالص بالله تعالى وبرسوله، وبالقرآن نور اللّه الهادي إلى صراط مستقيم، ثم هدّد وحذّر من الحساب العسير يوم القيامة وهو يوم الجمع، حيث يغبن كل إنسان عمله، لتركه الاستعداد ليوم الآخرة، وليس هناك أحد أخلص من اللّه وأحبّ لعباده، حيث أمر بما فيه المصلحة لهم، وحذّرهم من المخاطر، ونبّههم إلى التسابق في عمل الخير، ووصف لهم أنواع النعيم، وألوان العذاب في الجحيم، ورغّبهم بالإيمان والطاعة والتوكّل على اللّه سبحانه، كما في هذه الآيات:


{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)} [التّغابن: 64/ 8- 13].
هذا بعد إثبات البعث اليسير على اللّه: دعوة إلى اللّه تعالى وتبليغ وتحذير، فصدّقوا بالله ورسوله محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، وبالقرآن الكتاب المنير الهادي إلى السعادة، والمنقذ من الضلالة، واللّه مطّلع على كل شيء، عالم بكل ما تعملون أو تقولون، ومجازيكم على ذلك خيرا أو شرّا بحسب عمل كل واحد.
اللّه خبير ينبئكم بما عملتم يوم يجمعكم أو يحشركم في صعيد واحد للجزاء، يوم القيامة، ذلك اليوم الذي يظهر فيه الغبن أو النقص، غبن الكافر بتركه الإيمان، وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان، فتظهر فيه الخسارة الفادحة للفريقين. فإذا وقع الجزاء عيّر المؤمنون الكافرين، لأنهم يجزون الجنة، ويحصل الكفار في النار.
ومن يصدق بالله تصديقا صحيحا، ويعمل العمل الصالح بأداء الفرائض والطاعات، واجتناب المنهيات المنكرات، يمح اللّه سيئاته وذنوبه، ويدخله الجنات التي تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، ماكثين فيها على الدوام، وذلك الشرف والإنعام والتكريم: هو الظفر أو الفوز الذي لا يعادله شيء قبله ولا بعده.
وإنما قال: {خالِدِينَ} بلفظ الجمع، بعد قوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ} بلفظ الواحد، لأن ذلك بحسب اللفظ، وهذا بحسب المعنى.
وأما الذين كفروا بالله وكذبوا بآياته القرآنية الدّالة على البعث والقدرة الإلهية، وأنكروا رسالة النّبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، فأولئك هم أصحاب النار، خالدين (ماكثين فيها على الدوام) وبئس المرجع مرجعهم، وساءت النار مثواهم.
وهذه موازنة بين الفريقين، تدلّ على حال السعداء، وحال الأشقياء، لبيان حال التغابن في الآخرة، لا في الدنيا.
ثم أوضح اللّه تعالى أن كل ما يصيب الإنسان فهو بقضاء اللّه وقدرته، على وفق السّنة الكونية، القائمة على العلم الإلهي، والإرادة المدبّرة، أي إن كل ما يصيب الإنسان من مصائب ورزايا، ومن خير أو شرّ فهو بإذن اللّه تعالى، أي بعلمه وإرادته وتمكينه الوقوع، بحسب الحكمة الإلهية، وما على الإنسان إلا العمل بأمر اللّه، واجتناب ما نهى عنه، لأن الأمر الإلهي غير الإرادة.
ومن يصدق بالله، ويعلم أن ما أصابه من مصيبة أو شرّ أو خير، يهد اللّه قلبه للرّضا والصبر والثبات على الإيمان، واللّه واسع العلم، لا تخفى عليه من ذلك خافية. وبعبارة أخرى: من آمن بالله تعالى، وعرف أن كل شيء بقضاء اللّه وقدره وعلمه، هانت عليه مصيبته، وسلّم الأمر لله تعالى.
ثم أمر اللّه تعالى بالطاعة، أي أيها الناس اشتغلوا بطاعة اللّه فيما شرع، وبطاعة رسوله فيما بلّغ، وافعلوا ما به أمر، واتركوا كل ما نهى عنه وزجر، فإن أعرضتم عن الطاعة، وتنكبتم طريق العمل، فإثمكم على أنفسكم، وليس على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلا التبليغ الواضح. قال الزّهري: من اللّه الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. والآية وعيد وتبرئة لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم إذا بلّغ.
واللّه هو الإله الواحد الذي لا إله غيره، ولا ربّ سواه، وهو المستحقّ للعبودية والعبادة دون غيره، فوحدوا اللّه وأخلصوا العمل له، ولا تشركوا به شيئا، وتوكّلوا عليه، أي فوّضوا أموركم إليه، واعتمدوا عليه، لا على غيره. وهذا تحريض للمؤمنين على مكافحة الكفار ومجاهدتهم والصبر على دين اللّه تعالى، وإرشاد إلى وجوب الاعتماد في كل شيء على اللّه، وطلب العون الدائم منه، فهو حسبنا ونعم الوكيل.
إن هذه الإرشادات الإلهية ترشد إلى الصواب في الأمور، وتدلّ على فلسفة الأحداث، وتعلّقها بالإرادة الإلهية، وبالعلم الرّباني، وبالحكمة السّرمدية، فكل ذلك مرتبط بعلم اللّه تعالى الشامل لكل شيء، ويجب على العبد المؤمن الرّضا والتسليم، وحسن الظن والثقة بالله، ووجوب الاعتماد على اللّه بعد اتّخاذ الأسباب، والقيام بالأعمال المطلوبة شرعا.
فتنة الأزواج والأولاد والأموال:
حذّر اللّه تعالى من فتنة الأزواج والأموال والأولاد الذين يكونون سببا في التقصير بالطاعة، والتورّط أحيانا في المعصية، وناسب ذلك أن يأمر اللّه بالتقوى والإنفاق في سبيل اللّه، لأن ذلك هو رأس مال الإنسان، وسبيل إسعاده في الدنيا والآخرة، فلكل مرض علاج، وعلاج الانحراف المبادرة إلى الاستقامة، والتزام جادة الامتثال والطاعة، كما توضح هذه الآيات الآتية:


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} [التّغابن: 64/ 14- 18].
أخرج الترمذي والحاكم وابن جرير عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ} في قوم من أهل مكة، أسلموا، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم (أن يهاجروا)، فأتوا المدينة، فلما قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، رأوا الناس قد فقهوا، فهمّوا أن يعاقبوهم، فأنزل اللّه: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا} الآية، أي إن سبب الآية أن قوما آمنوا بالله تعالى، وثبّطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة، فلم يهاجروا إلا بعد مدة، فوجدوا غيرهم قد تفقّه في الدين، فندموا وأسفوا وهموا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، إن بعض أزواجكم وأولادكم عدو لكم عداوة أخروية، في غير صالحكم، يشغلونكم عن الخير والعمل الصالح المفيد لكم في الآخرة، فاحذروا أن تؤثروا حبّهم وشفقتكم عليهم على طاعة اللّه تعالى. ثم رغّب اللّه تعالى بالعفو عنهم، فإن تعفوا عن ذنوب أزواجكم وأولادكم، وتصفحوا بترك اللوم عليها، وتستروا الأخطاء تمهيدا لمعذرتهم فيها، فالله واسع المغفرة لذنوب عباده، شامل الرحمة بهم، يعامل الناس بأحسن مما عملوا.
ثم أخبر اللّه تعالى أن الأموال والأولاد فتنة أي موضع اختبار ومحنة، تشغل المرء عن مراشده، وتحمله على إيثار الدنيا على الآخرة، والوقوع فيما لا يحمد عليه، ومنه قوله صلّى اللّه عليه وسلّم- فيما أخرجه أبو يعلى في مسنده-: «الولد مبخلة مجبنة».
واللّه عنده الثواب الجليل لمن آثر طاعة اللّه تعالى، وترك التورّط في المعصية، بسبب محبة ولده وماله. وهذا تزهيد في الدنيا، وترغيب في الآخرة.
أخرج أحمد والترمذي والحاكم والطبراني عن كعب بن عياض قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «إن لكل أمّة فتنة، وإن فتنة أمّتي المال».
والتخلّص من الفتنة: بالتقوى والطاعة، فأمر اللّه بالتقوى: وهي التزام الأوامر واجتناب النواهي، بقدر الطاقة والجهد، وأمر بالاستماع للأوامر وإطاعتها، والإنفاق من الأموال التي رزق اللّه بها العباد في وجوه الخير. وقوله: {خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ} منصوب بقوله: {أَنْفِقُوا}. والخير هنا: المال، أو نعت لمصدر محذوف تقديره: إنفاقا خيرا. ففي الإنفاق خير للأنفس في الدنيا والآخرة.
ومن وقاه اللّه وحفظه من داء الشح (البخل مع الحرص) فأنفق في سبيل اللّه ووجوه الخير، فأولئك هم الفائزون بما يطلبون.
أخرج البخاري في تاريخه وأبو داود عن أبي هريرة رضي اللّه عنه: أن النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «شرّ ما في الرجل: شحّ هالع، وجبن خالع».
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: {لما نزلت اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ} [آل عمران: 3/ 102] اشتدّ على القوم العمل، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم، وتقرّحت جباههم، فأنزل اللّه تخفيفا على المسلمين: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه».
ثم أكّد اللّه تعالى الحث على النفقة، بقوله: فيما معناه: إن تتصدقوا صدقة حسنة بإخلاص وطيب نفس، يضاعف اللّه الثواب لكم أضعافا مضاعفة، ويغفر لكم أيضا ذنوبكم، واللّه يجزي الكثير على القليل، تام الشكر، أي يعطي على الطاعة الجزيل بالقليل، واسع الحلم، أي لا يعاجل بالعقوبة على المعصية. وقوله: {شَكُورٌ} إخبار بمجازاته تعالى على الشيء، وأنه يحط به عمن شاء عظائم الأمور.
ثم رغّب اللّه ترغيبا زائدا بالنفقة، وهو أن اللّه تعالى شامل العلم بما غاب عنكم وما حضر، غالب قاهر، ذو حكمة بالغة، يضع الأمور في مواضعها الصحيحة. إن التحذير من فتنة المال والتعلّق به، ثم توالي تأكيدات ثلاثة على الإنفاق بأساليب متنوعة، ترويض على اقتلاع داء البخل من النفس، وحمل للنفس على ادّخار ثواب النفقة في سبيل الخير والمعروف عند اللّه تعالى الذي لا تضيع عنده الودائع.